الحياة في غزة أهم من الموت في سديروت
خالد الحروب
ما فائدة أن تسقط عدة صواريخ "قسام" على مستوطنة سديروت الإسرائيلية فلا تصيب أحداً, وأن يسقط مقابلها عشرات الفلسطينيين شهداء وجرحى جراء الانتقام الإسرائيلي؟ حتى لو أصابت صواريخ "القسام" أحداً أو جرحته فهي لا تصيب جيشاً ولا ثكنة عسكرية. ولو فرضنا جدلاً أن تلك الصواريخ استطاعت أن تمسح مستوطنة سديروت عن وجه الأرض فإن ذلك لن يغيّر من ميزان القوى شيئاً, هذا بفرض أن إسرائيل ظلت مكتوفة اليدين تراقب زوال تلك المستوطنة عن الأرض ساعة بساعة. الأضرار التي تحدثها صواريخ "القسام" في الجانب الفلسطيني, من ناحية الضحايا المباشرين, ومن ناحية الصورة العامة, ومن ناحية توفير مسوغات سهلة ورخيصة لإسرائيل لتظهَر بمظهر الضحية, هي أكثر بما لا يُقارن مما تحدثه من أضرار في الجانب الإسرائيلي.
هناك حقائق مؤلمة ومريرة في بعض الأحيان، لكن يجب أن تتوفر الشجاعة الكافية لمواجهتها والتأمل فيها وقبولها. من هذه الحقائق الراهنة أن صواريخ "القسام" لا معنى لها وليس هناك من حق أو شرعية سياسية لإطلاقها ثم تحميل جموع الفلسطينيين تبعات الانتقام الإسرائيلي. ليس هناك معنى لأن يتم التفاخر بقتل مستوطنة إسرائيلية بعد إطلاق عشرات الصواريخ, بينما يتم التغافل أو تناسي عشرات الفلسطينيين الذين ماتوا بسبب الانتقام. من هو صاحب القرار وعن أي شرعية سياسية يصدر وباسم من يقرر إطلاق الصواريخ. ومن الذي يعوض الضحايا الفلسطينيين, ومن يتحمل مسؤولية موتهم؟
هذه الصواريخ أصبحت قصة مؤلمة في حد ذاتها. فهي تُطلق منذ عدة سنوات وأصبح الآن أمامنا تجربة يمكن تقييمها والقياس عليها, بحيث نتجنب السجال النظري والافتراضي والاتهام بالاستسلام والخذلان، وبقية المعزوفة البلاغية المعروفة. القاعدة التي ينبغي أن نقيم فائدة وأداء هذه الصواريخ بناء عليها هي مصلحة الشعب الفلسطيني, ومدى مساهمة هذه الصواريخ في تحقيق تلك المصلحة, أو الدفع باتجاه إنجاز أي من الحقوق الفلسطينية. استراتيجياً لم تحقق هذه الصواريخ أي تغيير في ميزان القوى لأن ميزان القوى العسكري مختل بشكل لا يخفى على أحد. سياسياً تعمل هذه الصواريخ, وبتوازٍ مع تناحرات فصائلية مخزية, على تدمير حكومة الوحدة الوطنية, وهي المشروع الفلسطيني التوافقي الوحيد الذي قد يعطي بصيص أمل لتبلور برنامج سياسي موحَّد للفلسطينيين. أخلاقياً ومعنوياً, خلقت هذه الصواريخ وهْماً محلياً وعالمياً بأن هناك طرفين متكافئآن يخوضان صراعاً دموياً, أحدهما يملك "ترسانة" صواريخ (هكذا تسمى صواريخ!) والآخر يرد على الاعتداءات الصاروخية الموجهة إليه. أي إنجاز يمكن أن يحققه الفلسطينيون عندما يتم تصوير الصراع مع إسرائيل على مستوى متكافئ, وتغيب صورة الضحية الفلسطيني لصالح التساوي مع الجلاد؟
أمنياً, لم تحقق هذه الصواريخ أي أمن للفلسطينيين, بل اخترقت أمنهم ووفرت لإسرائيل مسوغاً دائماً للإرهاب والبطش والقصف العشوائي. أمن الفلسطينيين, والرغبة في ألا يموت أي فلسطيني, والحرص على صيانة الأفراد وليس استرخاصهم واسترخاص الموت, هو ما يجب أن يكون على رأس أجندة أي برنامج مقاومة. ليس من المقاومة في شيء أن نطلق رصاصة طائشة ثم نخسر عشرة أفراد جراء قرار إطلاقها الطائش, توقيتاً ومضموناً. ليس من المقاومة أن تحتكم القرارات والتوجهات "المقاومية" لمنطق "فش الغل" والانتقام. هذا منطق يخسر من يتبناه, والشواهد تفيض عن الحاجة للتدليل. منطق "فش الغل" هو الذي يجلب عار إعلاء الفرح لقتل مستوطنة إسرائيلية ليصبح أعلى نبرة وأكثر حضوراً من الحزن على مقتل عشرات الفلسطينيين. حياة الناس في غزة, على ضنكها وتعبها وكل ما فيها من شظف, أهم ألف مرة من محاولة إحداث الموت في مستوطنة سديروت.
هل هذا معناه أن يسكت الفلسطينيون على ما تقوم به إسرائيل ضدهم من بطش وقتل واعتداء؟ الجواب نعم. عليهم أن يردوا على ذلك بقوة عدالة قضيتهم وعلو كعبها الأخلاقي على العدو. قوة الفلسطينيين في قوة عدالة قضيتهم, وليس في قوة سلاحهم العسكري. كلما توضح الاعتداء من طرف واحد, كلما كسبت القضية شوطاً إلى الأمام. وكلما كانت المقاومة رشيدة وحكيمة كلما حشر العدو في الزاوية. وأمامنا تجربتا الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية. الأولى وضعت القضية على أعلى سلم العدالة, وعرَّت إسرائيل كما لم تعرَّ من قبل. كانت رسالة تلك الانتفاضة تقول: هناك شعب مقهور تحت الاحتلال, لكنه لا يستسلم, وبالحجارة يواجه آلة الاحتلال الشرسة. في الانتفاضة الثانية ومع ازدياد وتيرة العمليات الانتحارية واستهدافها مدنيين تآكلت عدالة القضية وجُيّش العالم ضد "الإرهاب الفلسطيني". صارت قضية فلسطين الناصعة العدالة تفريعة من تفريعات الإرهاب العالمي! ليس في هذا تقليل مما كانت تقوم به إسرائيل وسياستها وآلتها الإعلامية ودعم حليفها الأميركي المتواصل. فكل ذلك من البدهيات التي لا يحقق لنا التعذر بها إلا عجزاً فوق عجز.
وليس من المعقول قبول تبريرات المبررين بأن هذه الصواريخ أربكت العدو, ونشرت الذعر في أوساط المستوطنين, وحطمت نفسياتهم, وأضعفت حكومة أولمرت وقد تسقطها, وأنها, أي الصواريخ, تشكل جزءاً من شيء بلاغي موهوم تم تخليقه اسمه "توازن الرعب", فكل ذلك أساساته هشة. النقطة الوحيدة المعقولة هي أن تلك الصواريخ أربكت العدو, نعم أربكته, وهذا ما فعلته فقط, ثم نقطة آخر السطر. هي لم ولن تحطم المشروع الاستيطاني بل تجلب له دعماً مادياً أكثر فأكثر, من الداخل والخارج. آخر الدعوات في "الكنيست" الإسرائيلي تطالب بأن يتم تعويض المستوطنين من الأموال الفلسطينية المحتجزة لدى إسرائيل! الإسرائيليون المذعورون في سديروت يأوون إلى ملاجئ محكمة لا يخترقها قصف طائرات. لكن الفلسطينيين مكشوفي الظهور في قطاع غزة هم الذين يلتهمهم الذعر قبل أن تلتهمهم القنابل الإسرائيلية وهي تلاحقهم في البيوت والشوارع حيث لا ملاجئ ولا ما يحزنون. وإن كان هدف هذه الصواريخ هو إضعاف أو إسقاط حكومة أولمرت على ضعفها فهو هدف ساذج ولا يستحق الضحايا والمعاناة الناتجة عنه. وليس من المتوقع أن يكون إسقاط هذه الحكومة هو هدف راجمي الصواريخ, لأن بديلها حكومة أسوأ منها وبقيادة نتانياهو, ربما. لكن الحكومة التي أضعفت بسبب هذه الصواريخ والتي ربما ستسقط قريباً هي حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية, التي تقدم هذه الصواريخ مسوغاً آخر لإسرائيل لاعتقال نصف وزرائها, وتهديد من تبقى منهم بالاعتقال أو القتل. وأما حكاية "توازن الرعب" فهي تشاطر بلاغي لا أكثر ولا أقل, وليس له علاقة بالعسكرية والاستراتيجيا ولا تستحق الجدل.
يبقى القول إن الضغط الإسرائيلي (والفصائلي) المتراكم على فلسطينيي قطاع غزة يصعب تصور كيفية تحمله من قبل الناس هناك شبه المُعدمين, والفاقدين للأمن. لكن ما يمكن تصوره بسهوله هو أن هذا الضغط يدفع أجيالاً عريضة من الشباب الفلسطيني إلى الهجرة من القطاع للأبد. والأرقام المتداولة إحصائياً تثير الهلع الحقيقي. ماذا تستفيد القضية الفلسطينية والفلسطينيون من سياسات فصائلية تكون إحدى نتائجها انتهاك حق البقاء في فلسطين للفلسطينيين عبر دفعهم للهجرة منها, في الوقت الذي تتبارى فيه خطابات تلك الفصائل بالمزاودة على بعضها بعضاً في التشديد على حق العودة لمن هاجروا من فلسطين. كل صواريخ "القسام" على سديروت لا تستحق هجرة عشرة شباب فلسطينيين من القطاع إلى الخارج بتذكرة سفر مغادرة من دون عودة.